جمعتني الأقدار في السجن العسكري الأول، معتقل صيدنايا، في العام 2008، مع الفارس الذهبي عدنان قصار. قبيل بدء المذبحة التي ارتكبتها الشرطة العسكرية السورية بأيام معدودة، سمعت من سجناء آخرين عن “أبو التيت”، وهو اختصار اسم “أبو توفيق”، كما كان يحب أن نناديه، من سجناء آخرين عاشوا معه سنوات المرار والموت في سجن تدمر العسكري. لجميع المعتقلين رواية واحدة عن الرجل، تختصر بكلمة واحدة دائماً: إنه “فارس”.
لم أكن أتخيل أن الرجل فارس بالفعل، فربما ركب الخيل ومارس رياضة الفروسية، لكن ليس بالضرورة أن يكون فارساً بالمعنى الأخلاقي لكلمة فارس. ودامت هذه الصورة المبهمة عن الرجل في مخيلتي حتى اجتمعنا في الجناح “أ يمين، الطابق الثاني” من البناء الأحمر لسجن صيدنايا. الرحلة استمرت في ذات الجناح، حتى فرقتنا الشرطة العسكرية، في سجن دمشق المركزي “عدرا”، بعد أن نقلنا إليه، إثر انتهاء المجزرة.
على الرغم من بساطة وتواضع أبو توفيق، إلا أنه يشتمل على نبل الفارس وكرامته؛ فلم يكن الرجل يقبل الظلم على أحد، ولم يكن قادراً على تقبل الذل والعذاب الذي سامتنا إياه قوات الشرطة العسكرية. تجده طوال اليوم بين السجناء متنقلاً من غرفة إلى أخرى يحادث الناس ويستمع إلى أنينهم، على الرغم من أن عدداً كبيراً منهم لم يكن قد أمضى في السجن ربع المدة التي أمضاها “أبو التيت”، متنقلاً بين سجون آل الأسد. كان يستمع بمحبة ومودة للجميع، دون أن يحكي للناس قصته، حتى لا يزيد هماً جديداً، فوق هموم السجناء الآخرين.
اعتقل عدنان في عام 1993، قبل أشهر من وفاة باسل الأسد بحادث سير مطلع 1994. وسبب الاعتقال أن عدنان تفوق على باسل، وحمل لقب الفارس الذهبي عن جدارة. ازداد الخلاف بينهما، وانتهي الأمر بعدنان في أقبية فرع فلسطين. ليخبره حينها رئيس الفرع أن “لسانك طولان والمعلم بدو يعملك فركة أدن”. ويقرر رئيس الفرع ترحيل عدنان إلى سجن صيدنايا، بدلاً من إبقائه في عهدته. لم تكن مقارنة صيدنايا يومها بسجن تدمر ممكنة؛ فصيدنايا يوصف بأنه “الشيراتون” بين سجون آل الأسد. وفعلاً نقل عدنان ليقضي في صيدنايا بضعة أشهر حتى لحظة موت باسل الأسد، ليخرجه عدد من السجانين من مهجعه وينهالوا عليه ضرباً وركلاً وشتماً، ويتم نقله بعدها الى سجن تدمر بتهمة “محاولة اغتيال باسل الأسد”.
ثماني سنين عجاف قضاها الفارس في تدمر؛ مورست بحقه أشنع أنواع التعذيب والإذلال، في محاولة واضحة لكسر روح الفارس داخله. هذه الروح كانت تنمو وتكبر، مع كل ضربة وشتيمة وضلع مكسور. حتى جاء يوم أغلق فيه جحيم تدمر، وعاد عدنان وباقي النزلاء إلى جنة صيدنايا. حينها بدأت رحلة معاناة جديدة مع الرئيس الشاب بشار الأسد؛ من تدخل منظمات حقوقية وإنسانية ورياضية، إلى لقاء مباشر لوسيط مع الأسد في العام 2005. طرح الوسيط ملف عدنان مرة أخرى، لعل الرئيس الشاب يستجيب، لكن الأخير قابل طلب الإفراج عن عدنان برد غاية في الجلافة والفجور: “أنا ما دخلني، باسل سجن عدنان، روحوا طلعوا باسل من قبرو، خليه يطلع عدنان من السجن”. انتهي الأمل لدى المعتقلين بخروج الرجل من سجنه، لكن روح الفارس كانت تأبى أن تفارق الرجل، لتدفعه إلى مزيد من الأمل للقاء ولديه توفيق وماريا مرة أخرى. عدنان لم يذكر أبناءه عند الحديث عنهم إلا بصيغة الأطفال.
أحس باختلاط المشاعر في قلب عدنان اليوم، بين لهفة للحرية ولقاء الأهل بعد سنوات الغياب، وبين حزن وألم على رفاق الزنازين، على رغيد ووليد وبشار وفيصل وغيرهم، ممن عاشوا مع عدنان سنوات الغياب وما زالوا.
عدنان، ربما نجحوا في حرمانك من صهوة جوادك، لكنهم لم يقتلوا الفارس فيك. مباركة حريتك أيها الفارس.
عمر العبد الله
16 حزيران 2014