كَهفنا السوري بين أبَدَين..

في كل مرة أسمع خبراً عن إحالة سوريّين إلى محكمة الإرهاب، تقفز إلى رأسي بشكل لا إرادي، محكمة أمن الدولة العليا، ولولا “شكليتها” وتبعيتها لجهاز المخابرات، لأوشكت أن أترحّم على أيامها. مباشرة تعود إلى ذهني ذكريات متناقضة مشتتة وغير مترابطة، كواحد من ضحايا محاكمات تسعينيات القرن الماضي في تلك المحكمة وسط دمشق.

كان الطريق إليها يشكل لنا حالة مريرة. مجموعة من المعتقلين في سيارة شاحنة مغلقة وقديمة الطراز، نترنح ملفوفين بالرائحة الكريهة للمازوت المحترق الذي ينفثه عادم تلك السيارة. دُوار في الرأس، وشعور بالغثيان، وقلق من اللحظات القادمة.

بعد خمس سنوات قضيناها خلف الجدران فوق تلّة معزولة، كان الفضول يدفعنا إلى مراقبة الشارع والناس لقياس التغيرات التي طرأت على البلد خلال غيابنا الطويل. على طول الطريق من صيدنايا إلى شارع ٢٩ أيار حيث مبنى المحكمة في واحدٍ من تفرعاته، قريباً من السبع بحرات. تكرر نزولنا لجلسات المحكمة أربع أو خمس مرات، وفي كل مرّة كنا نلحظ أشياء جديدة تجعلنا نتصور أن هناك تطورٌ ما يحدث.

على ذاك الطريق، رأينا لأول مرة أطباق استقبال البث التلفزيوني التي تكاثرت في غيابنا (بشكل حذر وغير قانوني بدايةً) ورحنا نتساءل باستغراب: ما هذه الأطباق المعدنية المنتشرة على أسطح المنازل والأبنية؟ كنا نراقب أنواع السيارات الحديثة وحتى ألوان ملابس العابرين. وفي كل مرّة، كان شعور أهل الكهف لا يفارقنا.

لكن بمجرد الوصول ودخول المحكمة كان كل شعور بالتغيير سيزول على الفور. حيث نرى زملاء الكهف في صور أركان وموظفي النظام. “علي الضاهر” النائب العام يجلس خلف القوس (كان مستطيلا وليس قوساً) وملامح ملل موظفي القطاع العام تكاد تكون السمة الوحيدة الموحية في وجهه. وبينما كانت الأحكام التي ستأكل من أعمارنا (أحكام تقررت في فروع الأمن) تنهال علينا، كان هو يرسم بلا مبالاة، وتزجيةً للوقت الممل، مربعات ودوائر عشوائية على ورقة مرمية أمامه. ما كان يشعرني بظلم مضاعف معرفتي أن هذا “الشيء” سوف يعود إلى بيته بعد قليل، بينما سنعود نحن إلى زنزانات السجن.

في جلستنا الثانية، وعندما للمرة الأولى، رأيت القاضي “فايز النوري” الرئيس المزمن لمحكمة أمن الدولة العليا، تذكرت على الفور وجهه والقاعة. فقبل سنوات طويلة كنت قد شاهدته على القناة السورية وكان تلفزيون بيتنا ما زال بالأبيض والأسود. كان ذلك أثناء محاكمة مجموعة من المتهمين بالانتماء للإخوان المسلمين. هو ذاته لم يتغير فيه شيء، خارجٌ مثلنا من الكهف بصبغة شعره التي ما زالت ذاتها.

مشاهدة القاضي والنائب العام يتصرفان كموظفين لدى المخابرات، كانت تصيبني بإحساس انعدام الأمل الوطني. هناك كنت أشعر أن البلد بأكمله يشاركنا الكهف على نحوٍ ما. بلدٌ ساكن لا يخضع للقوانين والسنن الكونية التي تقتضي التطور، أو التغيير على الأقل.

ظاهرة واحدة كانت تشذ بنا عن تلك الأحاسيس المحبطة، وتوحي ولو بشكل غير مباشر أن هناك أمل ما، سوف يتجلى على نحوٍ ما في يوم ما. إنهم أهالينا، وخاصة النساء من أمهات وزوجات وأخوات، اللواتي تعودن أن يأتين في مواعيد جلسات محاكماتنا. كنُّ يقفن بعيداً على الرصيف، بانتظار وصولنا ونزولنا من سيارة نقل السجناء، مربوطين من يدنا كالعبيد كل مجموعة بجنزير واحد.

إنه مشهد مذلٌ للسجين وأهله، ومن المفترض بداهةً، أن يجعلهنَّ في حالة من الاضطراب. المفاجأة أنهن في عدّة مرات كنًّ يبدأن بالزغاريد، خاصة حين تكون من بينهم عائلة فلسطينية، فهذا التقليد فلسطيني. كن يزغردنَ لمجرد رؤيتنا نلوح لهن باليد المحررة، بينما يدفعنا عناصر الشرطة لدخول مبنى المحكمة بسرعة، وقطع هذا المشهد الشاذ في كهف سوريا الأسد. تكرر هذا المشهد عدة مرات، وسط دهشة العابرين في محيط المنطقة، الذين كانوا يتوقفون لبرهة، يدفعهم الفضول لمعرفة واستيعاب هذا المشهد غير المألوف، ثم يمضون إلى مشاغلهم.

حصل هذا قبل أكثر من خمسة عشر عام على انفجار ثورة السوريين، وقبل صدور قرار بإلغاء محكمة أمن الدولة العليا، ليُستعاض عنها بمحكمة الإرهاب الأكثر غموضاً. قد يكون بحكم الاهتراء الفيزيولجي قد جُلِبَ “نوريٌّ” جديد و”ضاهرٌ” جديد، توقاً إلى أبدٍ كهفيٍّ جديد رغماً عن سنن التاريخ. التاريخ الذي طالما صفع الطغاة. ففي كل مرّة وفي المشهد النهائي، كان يركلهم على أقفيتهم مردّداً حكمته الأثيرة: “ليس هناك من أبد”.

مالك داغستاني

7 يوليو 2017