مقدمة في رحلة اللجوء إلى لبنان
في كل البلدان التي تحكمها الأنظمة الديكتاتورية القمعية يعمدُ الباطشونَ إلى تقييدِ الحريات وتكميم الأفواه وخنقِ الأصوات المحتجة والصرخات المستنكرة والتحكم في شؤون البلاد والعباد. فإنْ أنكرَ عليهم أحدٌ شيئاً كانَ مصيره القتلُ أو النفيُ أو السجنُ أو العذابُ الأليم حتى ينقادَ إلى رشدهم وينصاعَ لأمرهم.
ولمّا كان الشعبُ السوريُّ يعيشُ تحت وطأةِ أحدِ تلك الأنظمة المستبِدة سنينَ طويلةً من الزمن تمادى فيها الظالمون يوماً بعد يوم بظلمه واضطهاده؛ هبَّت عليه رياح الثورة من شتى الأنحاء. فانتفضَ يطالبُ باستعادة الكرامة والحرية المسلوبة، لأنه من الشعوب التي تأبى الضيمَ وترفض العبوديةَ وتغارُ على مجتمعها وهويتها التي باتت هدفاً لمشروعاتٍ استعمارية ترسمها الأنظمةُ العميلة والدولُ المعادية وعلى رأسها إيران وإسرائيل.
ومن أول يوم في الثورة المباركة سخَّر النظام السوريُّ جيشه وصبَّ جامَّ غضبه على هذا الشعب الأعزل يقصفه ويقتله ويعتقل أبناءه ويزجُّ بهم في سجونه العاتية أو يشرّدهم في الأصقاع. فما كان منهم -وقد ضاقت عليهم الأرض بما رحبت- إلاَّ أنْ فرّوا هاربين خارج حدوده إلى البلدان المجاورة، ومنها لبنان، لأنهم ظنّوا أنَّ الإخوةَ «العرب» فيها لن يخذلوهم أبداً، ولم يكونوا يعلمون أنهم سيذوقون مرارةَ اللجوء وويلاتِ الاعتقال على أيدي إخوانِهم وأبناءِ جلدتهم. ولعلِّهم جهلوا أنَّ كثيراً من أجهزةَ الدولة اللبنانية ومخابراتها كرةٌ في ملعب نظام الأسد، وأنَّ مسؤوليها ما هم إلا لاعبونَ في فريق النظام ينحازون له، ويدافعون عنه، ويعادون من يقف في وجهه.
عَثَرَ الحظُّ بكثير ممَّن لجأوا إلى لبنان فوقعوا في قبضةِ السلطات الأمنية وفي شباكِ المعتقلات. وعندنا حكاياتٌ لسوريين أُدخلوا السجون وذاقوا مرارة العذاب فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، لا لشيء إلا أنهم ناصروا الثورة في نيل حرية البلاد واسترجاع حقوقها، فقضَوا سنواتٍ من أعمارهم في غياهب الأفرع الأمنية والمعتقلات المظلمة. وقد خطّوا شهاداتهم ليسمع العالم أجمع ويرى الحقائق التي لا يمكنُ لأحدٍ إنكارُها، سواء التعذيبَ بأشكاله وصنوفه أو الفسادَ الكبيرَ على المستويين القانوني والقضائي في حق السوريين هناك. كما أنهم شهدوا على التواطؤ الواضحِ بين السلطات الأمنية -وفي طليعتها حزب الله أداة إيران في منطقتنا- والنظام السوري وممارساته الوحشية التي ألجأَتْ معظمَ أبناءِ الشعب السوري للنزوح واللجوء.
لكلّ منا قصةٌ ملؤُها الحرقةُ والألم. وإنْ كنا نخطُّ شهاداتنا اليومَ بأيدينا فذلك لأنَّنا ما زلنا في سجون لبنان مع إخواننا وأصدقائنا، بآلامهم وآمالهم التي علَّقوها فينا يوم خرجنا حتى نُبَلّغ أصواتَهم لأحرار العالم وأصحابِ القرار الدولي الفاعل في هذه القضية المحقّة. ولأنَّ السجونَ التي أكلت سنواتٍ من أعمارنا ظلماً وقهراً ما زالتْ تحفر آثارَها في أجسادنا وعوائلنا وأطفالنا حتى اليوم، ولا بُرءَ لها ولا شفاءَ منها إلا بانتصارِ قضية المعتقلين والمفقودين.
لـ عمر جمول
معتقل سابق وصاحب كتاب (ولادة من جديد)